موت رجل...
توفي إلى رحمة الله –إن شاء الله- يوم الأربعاء 13 يونيه 2012، المفكر المسلم الكبير رجاء جارودي، بعد أن عاش غربة في أواخر سنوات عمره، في بلده فرنسا وفي أوربا، بسبب إسلامه وفضحه للصهيونية.
لكن الغربة المرة التي عاشها جارودي –رحمه الله-، هي التي عاشها بين المسلمين، الذين كان يفترض بهم أن يحتفوا به، بما يتناسب ومكانته الفكرية العالمية.
نعم، في بداية الأمر، عند إعلانه –رحمه الله- إسلامه (في سنة 1982)، تكلمت عنه الصحافة العربية، وكانت تتابع أخباره. ورحبت به النخبة عندنا، بسبب مكانته الفكرية العالمية التي لا يستطيعون إنكارها، خصوصا وأنه كان من منظري الاشتراكية في العالم؛ لكن سرعان ما أُهمل إهمالا متزايدا، بلغ درجة النسيان في السنوات الأخيرة.
أُهمل جارودي من قِبل المسلمين المترسمين (المقلدين)، لأن فكره أوسع من عقولهم المسجونة خلف مقولات متوارثة، لا يقدرون على مفارقتها شبرا واحدا، بسبب جهلهم بأصول الدين (بالمعنى اللغوي لا الاصطلاحي)، التي بدأ جارودي يضع أصبعه على مواطن غيابها في تديننا المعاصر.
فرح بإسلامه بعض جهلة العرب، لأنهم ظنوا أنه سيصبح تابعا لهم، يمدح سلاطينهم ويدين لهم بالولاء؛ ويكفر ويبدّع من يكفّرون ويبدّعون. لم يعلموا أن فكره لا يسمح له بهذه الممارسات الجاهلة، والولاءات المنافقة، التي ما كان يقبلها حتى وهو على كفره. ظنوا أنه سيتبع مذهبا مخصوصا، يحارب به إخوانه من المسلمين الذين ليسوا عليه؛ فلما رأوا منه استقلالية غير معهودة عندهم، أنكروه؛ وأنكروا عليه أن يفكر معهم فيما يعود بالمسلمين إلى صحيح الإسلام، وقالوا: لا نسمح لرجل حديث الإسلام أن ينظّر لنا!. وليتهم كانوا صادقين فيما يقولون!..
بعد إسلامه، لاحظ جارودي –رحمه الله- أن الإسلام الشائع بين المسلمين، إسلام تاريخي شبه ميت؛ وكتب كتابه "الإسلام الحي" يريد أن ينبه به (حسب إدراكه) إلى أزمة التدين لدى المسلمين، لكن مجتمعاتنا التي جمدت على التقليد لعدة قرون، ما سمعت ولا وعت. فبقي –رحمه الله- غريبا بإسلامه بين قوم كافرين، تحاصره الصهيونية في بلده (فرنسا)، حتى بلغ الأمر به أنه لم يجد من ينشر له بعض كتبه.
وأما "النخبة" عندنا، فلم تعتن بفكر رجاء جارودي، لأنه معاكس لمسارها؛ فهو آت من الحضارة الغربية إلى الإسلام، بينما هي متجهة منه إليها؛ وإن أبقت لنفسها على تدين باهت يبقي على مسحة انتماء لديها. لم يكن المفكرون العرب على قدر محاورة جارودي ومساءلته؛ فتجاهلوه، واعتبروا رحلته الفكرية شذوذا عن القاعدة. هذا، حتى لا نقول إن نخبتنا متصهينة في جزء منها، توالي بموالاة الصهيونية العالمية، وتعادي بعداوتها.
لا يعني كلامنا عن فكر الرجل، أننا نجعل الإسلام فكرا، كما يظن ذلك كثيرون؛ لكننا أردنا أن نبين أن الفكر له محله في الإسلام، ولا ينبغي أن يهمل جانبه؛ خصوصا في زمن أصبح إدمانه يفوق إدمان التدخين.
رحم الله رجاء جارودي، وأبدله أهلا خيرا من أهله في الدنيا، وصحبة خيرا من صحبة إخوانه (المسلمين) في الدنيا. ونشهد له –والله حسيبه- أنه كان رجلا في زمن هيمن عليه أشباه الرجال.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بقلم الشيخ عبد الغني العمري حفظه الله
موقع الطريقة العمرية
http://www.alomariya.org/ahdath_suite.php?id=9